الأربعاء، 9 مايو 2012

قراءة مُوجزة في كتاب وطنٌ مرّ كالقهوة



في علم الأوطان لا توجد مساحة للتعريفات، كل المعاني قائمة ومتداخلة، لا يمكنك فصل الماضي عن السرعة ولا تستطيع عزل الفرد عن أفكار الناس وأعرافهم، عن ذنوبهم وفضائلهم!

التعبيرات التي تخرج للأوطان عادة تتلبس ثوباً آخر، فالأوطان لا يمكنها استخدام علبة أدوات التجميل، هي لا تستطيع إغراء القلوب بإكتحال ولا تقدر أن تنتصب واقفةً للإغتسال!

يجد التعبير نفسه في مأزق لغوي وسياسي يُجبره على استقراء الأوطان بنظرة تؤدي للهلاك. لذلك أقحمت اللغة الأوطان في ساحة الوصف وعرضته وعرّضت به في سبيل التعبير والشعور.

القريب من تلك الساحة تراه يبتعد عن المشهد السياسي، يبتعد عن الألقاب ومشروعية توزيعها وإعفائها، يبتعد عن التنظير والمثالية. هو يرى الأوطان في تفاصيل الروتين اليومي، في قيمة الجرائد وفي مدة الضوء الأحمر لإشارات المرور. يراها من خلال ما يتعايش معه ويتعايش به، ليس تواضعاً أو تعمد ابتعاد عن ساحة العراك، بل لأن تلك المشاهد هي الأقرب له وهي التي تمثله ويمثلها.

في كتاب "وطنٌ مرّ كالقهوة" عرض الكاتب مسيرة الأوطان عبر نظرية ثقب التلصص وفضول التساؤل التي تقوم عليها مرحلة الطفولة. ابتدأ وليته ما انتهى من بين كراسي الفصول المدرسية، وضع اصبعه بين السطور وما انتزعه إلا بجرح تسببت فيه حدّة الأوراق!

يدمج الكاتب صُوره سريعاً مع سوق الصُحف، يبدو أنه عالق في منتصف أعمدة كُتابها، أو ربما يجمع العناوين في درج واحد مع طوابع البريد. 

لم يذهب بعيداً هذه المرة وحاول رسم بطاقة بين الهوية والوطنية، وَضَعَ علامة ترقيم زائدة فوق تلك الفكرة ورحل، كما هي العادة في كل هذيانات الكتاب. تجدُه حيناً يُحلق في سماء سياسية في سطر خارجي، وفجأة يأتيك هذيان آخر، لتتحول قراءة الكتاب إلى محطات كثيرة، تتشابهُ سوياً كما تتشابه تفاصيل صورنا في تلك البطاقة!

وكما أسلفت، أن القريب من ساحة التعبير يرى الأوطان في مشاهد بعيدة عن بيئة القرارات الأعلى، يراها الكاتب في ابتعاد المسافة الزمينة لتغيير صورة الهوية. هو مشهد ربما يستوقف البعض للاستنكار والبعض للتهميش، فموقف كهذا لا يرفع رصيدي ولن يشفع للحصول على توقيع في ذيل معاملة، هو مشهد لا يقدم ولا يؤخر!


وصِدقاً، لن يحرك هذا شيئاً فهو ليس أكثر من هذيان، فلا تُمني النفس حين تصل لآخر صفحة!

ستقرأ "الوطن .. كل ضربة ركنية تعتلي العارضة"، أقرأت مُسبقاً شعراً ثمل صاحبه ليدمج الرثاء بالهجاء؟

يستنكر الكاتب التعاريف، بَحثَ في قواميس اللغة عن أصولٍ يُـرَوّجُ لها، لكنه عاد يصيغ بحثه هذياناً آخر. وهنا يجوز أن نسأل، هل الهذيان ترويج تلك التعاريف، أم الهذيان عودة صاحبنا بلا تعريف؟

يعود الكاتب مراراً لصندوق ذاكرته، يستذكر حارته وكأنه يتلذذ بحلاوة اشتراها نهاية الأسبوع. ألم أقل لكم أن التعبير بعيد جداً عن خريطة الدول وقريب من أزقة ضيقة تجاهلتها بواخر الزيت وقنينات العود الفاخر.

كلنا للوطن أو الوطن لنا كلنا، مشروع صورة لم تكتمل بعد، هكذا يراها الكاتب باتساعها وضيقها، عبارة لم تعبر محيط الوطن كاملاً. أجاد الكاتب اسقاطها في تساؤل الشراكة واستحقاقه، وبارك للصحف ميلاد مادة يُلونون بها رقاع أي مساحة فارغة بين مُبوبات المفقودات!

ذهب الكاتب لروح الصورة ودبغها، واستخلص بلا اتفاق أن الطمس فرض على وجود كل ماهو فوتوغرافي. هذا مسرح آخر يغازل فيه الكاتب الوطن ويراه فيه عالقاً بين قانون ولا قانون!

لا ينفك الكتاب في سرد تاريخ الهوية والفصول المدرسية، هي مرحلة تَذوّق فيها الكاتب قهوة الوطن وبدأ من هناك ولا زال يبدأ.


حكى قصة "بدل تالف" وتلاها بنشيد وطني، هو لا يريد الابتعاد عن منشأ الأوطان ومنتجاتها، هو يعلم أن نيوتن ما قال قوانينه عبثاً، فلكل فعل ردة فعل، وكل ما يجري في المساحة البعيدة عن الروتين ينحت كلمةً أو عُرفاً ما، هكذا فهمت!

لم يعر الكاتب الخصوصية ولا حتى شعرةً واحدة، لم يطالب بعازل يفصل الجياع في مطعم فاخر، وجعلنا نُقلب التلفاز معه. ظهر الكاتب بصورة أقوى مما كان يتابعه عبر الشاشة، القوة العاشرة، وبالرغم أن قصاصات الكتاب تحوي وقائعاً ساخرة إلا أنه هنا اتضح، وبان سن الكاتب مع برودة التكييف.

جال بعدها الكاتب مع وزير الخارجية في القطار، طالعا سوياً بعض العناوين وصنفا رُكاب القطار حتى لا ينتابهم الملل. بعدها مرّ صناديق البريد من أجل نصوص مسرحية فقط، قلت لكم هو كاتب يهذي، يمزج قهوة الوطن في عرض مسرحي لم تسبقه بروفه

يحتوي الكتاب على مشاهد كثيرة، تجمعها الهذيانات. الجميل أنك وإن مررت بجانب لافتة "يوجد مكان مخصص للنساء" فلن يمر بمخيلتك ما ستُطالعه في هذه القهوة. والأجمل أن الكاتب اتسم بالشراكة والحياد، لم يوزع قهوته لمن يعرف فقط، بل وضعها في خزان سبيل لذة للعاطلين!

أما أنا لو أسهبتُ هنا سأكرر كثيراً من الكلمات، ولكن لو أعدت ارتشاف "وطنٌ مرّ كالقهوة" فإنني سأقرأ في كل مرة هذياناً مغايراً.


يُمتعك الكتاب في حد ذاته كرواية مشوّقة، رغم أني لم أنهي في حياتي رواية واحدة!

لم أندم حتى لتكرار القراءة في ٧٨ صفحة زيّتنها الكاركتيرات والهذيانات معاً. لتحميل الكتاب انقر هنـا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق