الاثنين، 18 نوفمبر 2013

استقراء الأدلجة: البال المرتاح في ديانة التفاح!





تصوّر جيلًا كاملًا ومنذ طفولته تم تلقينه بأنه لا فاكهة إلّا التفاح، وذلك من قِبل جماعة تُطلق على نفسها "حزب الصحة"، وأنه لا يوجد أنواع أخرى من الفاكهة سوى التفاح فقط!

تقوم هذه الجماعة بحظر الفواكه الأخرى بحُجة الصحة العامة وإقناع الصغار أن تناول أي فاكهة أخرى أو حتى محاولة لمسها لاستكشافها وتذوقها يؤدي لمصير مجهول. ولتدعيم هذه القناعة وترسيخها في المجتمع ينتشر أفراد هذا الحزب الصحي بين الأوساط العامة وعبر لقاءات دورية للترويج للتفاح وتوضيح مضار الفواكه الأخرى. فيقوم "أخصائي التفاح"، لقب العضو المحسوب على الحزب الصحي، بإلقاء محاضرات توعوية للأطفال تشمل قصصًا ومواعظ حول محاولة أحدهم عدم تناول التفاح وإصابته بمرض خطير في الغدّة الدرقية، أو حكاية عن تلك الفتاة التي جربت تقشير التفاحة، وهو المحرم في نظرهم، فتحول القشر إلى أفعى سامّة التهمت جسد الفتاة المتمردة العاصية، والعديد من الروايات المنقولة المُدعمة بمؤثرات صوتية وتعبيرية لزوم الحبكة الدرامية.

كما تتسع دائرة فضيلة "أخصائي التفاح" ليقوم بتجريم كل ما من شأنه فتح باب للتساؤل حول نظرية التفاح. على سبيل المثال، يتم حظر كل مصدر يحتوي على معلومات حول البرتقال، المغضوب عليه لدى حزب الصحة، فلا يمكن لأي فرد حتى رؤية البرتقال أو القراءة عنه. ولتسهيل مهام الحزب التفاحي تم اعتبار الكتب المتحدثة عن البرتقال وغيره من الفواكه جريمة وفتنة لا يأمن الفرد التفاحي من تبعاتها وآثارها السيئة فقد يُبدّل مذاقه، ولديهم من يُبدّل مذاقه يُقطع لسانه ليكون عبرًة لكل من تُسول له نفسه امتهان التفاح.

وستقوم هذه الجماعة بتكوين لجنة لمراقبة أفراد هذا الجيل والسعي لحظر من كل ما من شأنه كسر قواعد التفاح. لجنة تحمل في شعار الدعوة للصحة والسلامة والرغبة لحماية المجتمع من فساد الفواكه الأخرى لدرجة مطاردة ومداهمة من تظنه خرج عن قضمة التفاح المباركة حتى لو أودت بحياته للهلاك، فهي لجنة في نهاية المطاف لها هدف صحي، فإما أن تكون صحيًا كما يريديون أو فلا بأس أن تموت!

وعلى نطاق أوسع اختلف حزب الصحة حول التفاح الأحمر والتفاح الأخضر، وكل قسم يرى أن تفاحته فقط هي الفاكهه. بدأ جماعة الأحمر بإخبار أتباعهم أن الأخضر منبع الأمراض وحتى لو بدا لونه لامعًا إلّا أنه فاسد من الداخل، في المقابل قامت جماعة الأخضر باتهام الأحمر أنه هجين من الكمثرى الملعونة.

بعد كل هذا التلقين والمنع والإقصاء، الذي يُسمى استبدادًا، سينخرط المجتمع مُرغمًا في عملية الرضوخ تحت مسمى "الايمان بالتفاح"، وفي حقيقة الأمر هو لم يؤمن فعلًا لأنه لم يكن له حرية اختيار أصلًا. ثم يصل المجتمع لمرحلة وهمية عميقة حيث يبدأ بتصديق كذبته على نفسه، ويبدأ يمارس طقوس تناول التفاح كمسايرة لما هو مفروض إلى أن تبلغ هذه المرحلة درجة التبعية العمياء.

سيكبر الجيل بلا إدراك عن مئات أنواع الفواكه الغنية بالفيتامينات والمذاق اللذيذ، سيكبر كل مُحب للون معين معاديًا لأخيه لاختلاف مذاق واختيار، كل ذلك رغم أنهما لم يكن لهما حرية اختيار فاكهة من بين كل تلك الأنواع. سيكبر الجيل ليُورث جداله وسذاجته وخلافه مع الآخرين لأجيال المستقبل، بينما مجتمعات التعدد والحرية تكبر مستقلة الاختيار تضم ألوانًا من مختلف الفواكه، مبدعًة في ابتكار العصائر والأطباق، مُتحابة في تبادل الأفكار والوصفات والاختراعات وممتنًة لنعمة الوجود.

سيكبر الجيل مصابًا بألف لعنة من الغباء أمام عالم ينمو بتسارع مُذهل، سيكبر وقد أفنى حياته تابعًا ليس لحزب صحة بالفعل، بل مُستغفلًا بواسطة تُجار تفاح يُسوقون بضاعتهم لتنمو ثرواتهم وإن ادّعوا أن همّهم صحتك وحياتك فواقعهم يُنبئ بالكذب، ويبقى الجيل بكل سذاجة يُصارع من أجل تفاح فاسد!

بعيدًا عن سوق الفواكه والخضار، إن استطعت تصوّر كل ذلك، فحاول أن تفكر لتصبح قادرًا على الإيمان حقًا.



الأحد، 3 نوفمبر 2013

ساقطات الشوارع!


 قراءة في فضيلة التدين على قارعة الطريق




لا يمكن بأي حال تجاهل واقع بهذه الفظاعة إلا أن تنطلي حيلة الاعتياد، حين تصبح الحياة لدى الفرد مجرد روتين مكرر لا يدفعه للتأمل، لا يُحرك فيه أيّ مشاعر، بل لا يرى فيه خدشًا لمنظومة الفكر البشري الذي استطاع أن يعبر الزمن بدائيًا يُهشم طعامه بالحجارة والعصيّ إلى أن بلغ الفضاء والنواة.

ما يجري في الشوارع يُمكنه اختزال مكنون المجتمع بكل تفاصيله، قضاياه، همومه، وعيه وانسجامه من عدمه. وبما أن المجتمع المتدين عبر هالة ضخمة من مظاهر وتعابير التدين يطرح نفسه كقدوة فكرية وانسانية نظامية فهو يدّعي حمل مخزون وافر من الأخلاقيات المُعتبرة التي تصقل فيه الممارسة الحسنة للحياة والتعاطي الحسن كذلك مع الآخرين.

الواقع يبدأ من تشييد الطرق والبنى التحتية التي أكد المطر على فشلها في أكثر من جهة، وعند هذه البداية تأكيد على اهتزاز خصال الإخلاص واتقان العمل، التي بدورها تعتبر قيم أخلاقية دينية منصوص عليها في أكثر من موضع.

تسير بين الشوارع فتسقط المبادئ والقيم المزعومة واحدة تلو أخرى. من النادر الملفت أن ترى طريقًا يخلو من النفايات، أقلّها قوارير بلاستيكية وعلب المشروبات الغازية. تقدم نحو شواطئ "الكورنيش" قليلًا بعد ليلة خميس، نفسهم من تسامروا حدّ الاعياء إلى فجر الجمعة يتركون مخلفاتهم وقِطع الخبز وبقايا الطعام مسرعين للنوم والاستيقاظ قبيل أذان الظهر للاستعداد للصلاة. هُم أنفسهم من كان يردد "النظافة من الايمان" عبر الاذاعة المدرسية كحل سريع لفقرة "حديث شريف"، أخبرتكم أنه مجتمع متعمق التدين في تفاصيل وجهات كثيرة تصل لإذاعة الصباح، وأبعد من ذلك!

أما السير وسط الزحام والاختناقات المرورية حكاية حرب في شوارع يشهد لها العالم بأنها الأعلى نسبة في إزهاق الأرواح! فلا قيم إفساح الطريق حاضرة ولا فضيلة الالتزام والصبر تمر من هناك، وتذكر هم أنفسهم من يستبسلون في دفاعهم عن تلك القيم وإلصاقها في تدينهم عبر مقالات وشعارات لم تجدِ نفعًا!

تسلك مسارًا آخر في طرقات المؤمنين، تجد امرأة تسعى بين إشارات المرور تسأل الواقفين، أخرى واقفة منذ ساعة تحت أشعة الشمس على رصيف الانتظار إلى الجانب الأيمن من بوابة المستشفى، وثالثة اضطرت لأن تُشير لسيارة أجرة عابرة ربما يقودها مجرم سابق. هي مشاهد حَقن فيها خطاب الوعظ معاني الكرامة بالمقلوب إثر حسّاسية الهوس التي تبتر مفهوم الانسان وفق أعضائه التناسلية! لأنه على ما يبدو أن قيادة المرأة ستخدش من حياء الفضيلة القابعة في شوارعهم أو ربما تثير حواس مجتمع يتغنى ليل نهار بالجوار والأخوة والشهامة وأنه من أخلص خلق الله بينما يعجز عن غض نظر واحترام امرأة تقود سيارتها، قد تكون ابنة جاره أو قريبته أو أمه وعمته، كل تلك الأرحام والجوار التي يتفنن في تعديدها عند نظرية التكريم تختفي عند الحقوق!

على الطرقات السريعة تعكس اللامبالاة أريحية التعدي على الآخرين، ينعطف كل منهم كيفما شاء بلا مُداراة لوجود الآخرين، لأنه حقًا لا يعتبر لهم وجود ولا لرأيهم في أي مكان أي قيمة أمام وجوده، هكذا يترجمون الفضيلة، هكذا يرون التسامح والنظام وحقوق الطريق! وعند نُقاط الانتظار تظهر علامات الاستحقار ليسقط ما تبقى من قيمهم المزعومة، تقف في مسارات اشارة ضوئية فيختلس أحدهم معبر ضيق ليحتل مرتبة متقدمة أمامك، لا تهمهم فكرة الانتظام في المسار، لا قيمة لكل الواقفين، لا حق لهم في العبور لأنهم جاءوا أولًا، الجميع نكرة، ومن الذكاء أن تستغل أي منفذ للعبور، هكذا باختصار يذهبون لأماكنهم المقصودة، كالبنيان المرصوص، كالرحماء بينهم!

الحقيقة أن الشوارع أصدق انعكاس لما تحمله المجتمعات، إن ما تراه في الطريق هو نتيجة طبيعية لمحتوى وسلوك ما يُلقنه الفرد، حين تغيب عنه الحرية ستسقط مبادئه في الشارع، ستفضح زيّف الايمان بالفضيلة والأخلاق مسارات الزحام، سيفقد المجتمع ماء وجهه أمام نفسه أولًا وسيكون عاريًا من كل ما يدّعيه لأنه بلا حرية لا يمكنه الاختيار، لا يمكنه الايمان فيفقد بالتالي حاسة الانسجام، لأن المطلوب منه أن يتقمص دورًا مكتوباً، ليس أكثر!

لذا، آمنت على الطريق أنه لا جدوى لتدين يحمل شعارات القيم والمبادئ دون أن يدفع لتأصيل الأخلاق ضمن إطار قانوني يكفل حق الجميع للإيمان، للسير وللحياة!


الأحد، 21 أبريل 2013

المتاجرة الوعظية بين الشمبانيا ونجوم ببلي!







درن براون، رسام باهر وكاتب مثير ومتخصص في التنويم المغناطيسي ومتعمق في دراسة السلوكيات الانسانية والنفسية، بريطاني  ولد في العام 1971  يفتح الأعين خلال هذا العرض الجريء على "أفيون" العقول وليس الشعوب فحسب، يعرض صوراً من أشكال الاستغفال التي يمتهنها الوعاظ ورجال الأديان لرفع رصيد الجهل وبالمقابل رفع أرصدتهم البنكية في حين يتوهم البُسطاء أنهم  تملكوا سرّ الشفاء أو حصلوا على خريطة الطريق إلى الجنة!

يقوم درن بروان باختيار أحد المُتبرعين لتقمص دور الواعظ، يُدربه على بعض الأفعال ويبين له كيفية الوصول إلى ثغرات العاطفة في نفوس المساكين، يُعلمه كيف يتحدث بثقة تُدهش المرتجفة قلوبهم من هالة المُسميات التي تُحيط الوعاظ والقساوسة وغيرهم مُمن يُسمون مجازاً رجال دين!

في تلك الأثناء قام فريق العمل بتأسيس موقع إلكتروني لهذا الواعظ الوهمي لنشر عدد من الأخبار والمعلومات عن انجازاته للاستشفاء. هُنا لا تهم جزئية الاستشفاء، بل المهم هو ذات الفكرة والسلوك الذي يُمارسها هؤلاء الوعاظ والدُعاة لكسب الأجر، ليس من الرب، بل من جيوب البُسطاء وبعض المُستغفلين أو المغفلين!

بعدها ذهب فريق العمل إلى قصر أحد أشهر الوعاظ الدجالين، قصر بُني بأموال الأغبياء كما تُبنى حول العالم بمباركة هذا الصنف الدنيء من الوعاظ الذين يسترزقون بعاطفة ومشاعر الناس باسم الرب!

ذهب درن براون مع الواعظ الوهمي لأمريكا لإقامة حفل استفشاء كما يسمى، قبلها زارا إحدى جلسات الاستشفاء في أمريكا لأحد أثرياء تُجار التدين لكشف أسرار الخدع التي تُنطلي على الحضور، حتماً سيبهرك ما ستراه خلال هذه الدقائق، لتعرف هل سينجح هذا الواعظ الوهمي في كسب "أتباع"، كما نجحت بعض اللحى الوهمية بشراء القطعان عبر تويتر!

تجري هذه الأحداث وما يشبهها حولنا هنا، وربما بشكل أشد بشاعة! فليس غريباً أن المجتمعات المُحافظة في بيئة قمع تتعرض للكثير من صور الاستغفال الذي يشتد عوده كلما برزت مظاهر التدين كمادة إعلامية بعيداً عن الممارسة السلوكية الفعلية في الشوارع وفي الحوارات والمجالس والملاعب وكل بقعة تطالها أيدي ولُحى هؤلاء الوعاظ!

والشيء بالشيء يُذكر، طالعنا بعض مشاهير الوعظ بدعوات طريفة لاستدرار عاطفة الناس والاشتراك في خدمة ببلي Bubbly والتي بالمناسبة تعني "شامبانيا"، حيث ترسل رقماً محدداً كرسالة نصية للشركة المزودة للخدمة لتصلك رسالة صوتية من هذا الشخص، الواعظ الزاهد المؤمن، ينصحك فيها وربما "يطقطق عليك" بفلوسك التي تدخرها لدفع إيجار شقتك والتي قد يشتري بها محبوبك الواعظ سيارة فارهة جديدة أو يستجم بها في النمسا مع قرب الصيف!

وهل تعلم أنه كان بامكانك اقتناء تقويم مجاني وقراءة ما خلف أوراقه من مواعظ وحِكم وأمثال وطرائف أيضاً، ولكن بما أن هؤلاء الوعاظ استطاعوا غرس "كُره القراءة" في العامة، فهم متأكدين من الربح في هذه الخدمة لدرجة طلب أحدهم مقدم عقد بقيمة مليون ريال وخصم المبلغ من الأرباح كما ذكرت الكاتبة بدرية البشر في مقالها الواعظ المأجور حيث ذكرت تلقيها لعرض ممثال للمشاركة في الشمبانيا، عفواً في حلقة الببلي المباركة!

عافاكم الرب الحديث يطول كثيراً حول هذا الأمر، والخلاصة يؤكد هذا العرض أن العقل البشري قابل للانتهاك في حال رضي هو بذلك، والسؤال هنا، ماذا يبقى للانسان حين يُرفع عنه القلم!؟


Hussainz9@

الثلاثاء، 2 أبريل 2013

مذكرة انتحار: وطن عاطل عن الأمل





قبل ربع قرن، كان يذهب للمدرسة سيراً على قدميه بعد أن تودعه أمه من على آخر عتبات مدخل المنزل، يحمل حقيبته على ظهره حاملاً ثقلاً من الأمل الذي أوهمه إياه الكبار من حوله، كما أوهمه كتاب المطالعة في درس الطبيب المجتهد. يمر الحي تلو الآخر، يعبر الطريق ويعبُره الخوف يميناً وشمالاً، هو يستذكر دورسه جيداً، يلتفت إلى جانبي الطريق ثم يعبر بحذر. يخطو بثقل الحقيبة في ذهابه، ويركض عائداً يُمني النفس بالرسوم المتحركة ومجلة ماجد التي لا تفارقه.

مرًّت معهُ السنوات على ذات المسار الذي لم تتغير معالم الحُفر فيه رغم تغير ملامح وجهه هو، شبَّ قليلاً وكل شيء من حوله في سكون الأصنام، نخلة معوجّة، بقايا رصيف، دُكان العم أبو حسين، و ملعب ترابي تلهو فيه شمس الصباح. لا شيء هنا يتغير، حتى دعوات أمه ووهم الأمل الذي يُسكب في أذنيه في كل إذاعة صباحية بأن "من جد وجد ومن زرع حصد"!

يعتريه القلق عند حلول الإختبارات كل عام، يمارس طقوسه في المذاكرة وتقبيل رأس والدته ثم النوم مبكراً، يستيقظ في بُكرة الصبح يقلب صفحات الكتاب، يعيد الحفظ، يرتب محفظة الأقلام ويتأكد من وجود الممحاة الجديدة رغم أنه لا يفضل استخدامها!

ولأنها مرحلة نهاية العام، يوصله والده إلى المدرسة، يقف بجانب السور في انتظار فتح الأبواب، يذهب إلى طاولته، يرتبها بالشكل الذي يريده المُعلم عادةً كي لا يتأخر لبدء الإختبار، طالب دقيق فعلاً!

يحصد أعلى الدرجات، يأتي فرحاً لوالدته التي تلمّه بكل فرح، وابتسامة معلقة على شفتيه في انتظار هدية النجاح. لم يكن كالعديد من أقرانه، لم يكن همّه دراجة هوائية أو ألعاب كومبيوتر، كان يرغب في شراء مجموعة بطاقات "سين/جيم" ليُعد مسابقات ثقافية حين يجتمع بأقرباءه خلال الإجازة!

كان يجمع شهادات التفوق في درجه الخشبي، يُعيد مطالعتها بسعادة بالغة، يرى الحياة كلها في اسمه المُدون وسط الوثيقة، سعيد جداً وغريب جداً هذا الفتى!

يتكرر العام تلو العام بهذا الروتين الوهمي نحو المستقبل، كانت رغبته الإلتحاق بأفضل جامعة فقط، هذا كان حلمه، يحلم دوماً بالأفضل ولا يتنازل إلا بتحقيق ذلك، لأنه وكما قيل له "من جد وجد ومن زرع حصد"!

أمضى سنوات خمس من العناء في الجامعة، "فرمتُه" الحياة الجامعية والمجتمع المختلف أيضاً. تصادم مع أستاذه حاصلين على شهادات عُلياً في "التطفيش"، أحدهم كان يقول للطلاب "الطالب مهما فعل لا يستحق الحصول على A، الدكتور فقط هو من يحصل على تلك الدرجة"!

أنهى تلك المرحلة بنجاحه، توج عناء سبعة عشر عاماً من الهموم الممتزجة بالفرح حيناً بإنجاز كبير، هذا ما يقال في لحظات مشابهة. ولا شيء تغير في صنمية الحياة من حوله، كل شيء ساكن كما هو، حتى أوراق تقديمه للحصول على وظيفة، ساكنة في صناديق المسؤولين!

لم يكن للطموح لديه حد، اغترب من أجل المعرفة، ليس كهذا الشاب من يكسر أمله مسؤول ناعم اليدين يخاف أن يخدشها بأوراق العاطلين، قرر مواصلة الدراسة ورحل!

رتب حاجياته، ولم ينسى ترتيب الأمل في مخيلته، رسم لنفسه مستقبلاً يشبه قوس الألوان حين يعانق السحاب، قبّل رأي والدته ويديها، ورحل فعلاً. أمضى عامين يستوفي شروط التخصص، كلما سُدت أبواب الطموح في وجهه عاندها بإصراره، يرضخ للتحدي فيُطوعهُ أملاً، ويتحدى الأمل فيُرضِخهُ إليه!

نال درجة عُليا، أمسك بوثيقة التخرج وكأنه ممسك بكواكب الفضاء، هاتف والدته أثناء الحفل، بكت فرحاً وشوقاً لهذا الذي حملته في بطنها تسعة أشهر. عاد يحدوه ذات الأمل والإصرار، تهون عليه الصعوبات التي واجهها، شتاء قارس ومتطلبات دراسية ثقيلة جداً، كلها هانت حين التقى في مشهد مكرر بوالدته، ما أسعدهُ بسعادتها، هذا ما كانت تقوله عيناه حينها!

مضى عام ونصف من البطالة، يجلس كل صباح يُرسل بريداً لهذا وذاك، يزور مكتباً، يُقابل أحدهم، يجيب على أسئلة، يحاور آخر، ولا من مجيب. ذهب ينفض ركام الوقت في مقهى قريب، أمسك بكل برود بجريدة ورقية، يقرأ خبراً عن رحلة استجمام مسؤول في جُزر المالديف، خبراً آخر عن مسؤول لازال يكرر وعوده منذ الابتدائية، مسؤول ثالث يثني ويشكر.

يدخل المقهى شاب مخملي، أوقف سيارته خلف السيارات الواقفة دون اكتراث، دفع الباب كأنه يركل حاوية قمامة، أمر النادل بتحضير كوب قهوة وكأنه خادم لديه، سمع من يجلس بجانبه يقول "هذا ولد فلان"

عاودته الذكريات فزادتهُ همّاً، سنوات طوال من العناء والأمل تُهدم في لحظة، مستقبل ولد فلان يشبه ماضيه، لا عناء فيه سوى النوم والسفر، وهذا الذي ذهب سيراً للمدرسة، تصادم مع أستاذة الجامعة، اغترب من أجل لقمة عيش كريمة انتهى به الحال في خبر بين صفحات تلك الجريدة عنوانه "انتحار شاب جامعي عاطل عن العمل"، وفي رواية أخرى انتحار وطن عاطل عن الأمل!

الجمعة، 15 فبراير 2013

ما بين الطفولة والطريق




كان الطقس بارداً، وكان وقت الليل يقترب من الانتهاء. لم يكن المكان يسمح لتوقع مثل هذا المشهد، في الحين الذي يستغرق الصغار في النوم.


بالرغم من ارهاق المشي لساعات طويلة سمح لي الإعياء بوقفة تأمل اختطفت فيها هذه الصورة. كان يعض بنواجذه على طفولته بأكملها، كان ممسكاً بطفولته وعيناه تحكي للمارة قصصاً على امتداد الطريق، قصصاً تشبه السكون القابع بين قبور الأولياء والصالحين من خلفه!



اسطنبول 2012

الأحد، 3 فبراير 2013

إنقلاب سيريالي!





منذ سنوات وأنا أحاول استقراء الحقائق، صدقها وكذبها، بمنظور مقلوب. كنت ولازلت، للأسف، مقلوباً في كثير من الأفكار، وصدقني إن الإنقلاب في المجتمعات المقلوبة يعتبد إعتدالاً!

الفن السيريالي، فن إنقلابي، يرى من لا يراه الفن الآخر وأهله، هو مساحة لخيال يعتبره البعض "كاركتيراً" والبعض الآخر يراه "لخبطة"!

وبين هذا وذاك، تبقى العين السيريالة تعكس واقع الناس المقلوب أصلاً، ففي شوارعنا مناظر إنقلابية كثيرة، كعمود إنارة يتوسط طريق سريع، كلوحة ممنوع التصوير، وغيرها الكثير.

المثير أن المجتمع نفسه بدأ يتعامل بسيريالية فريدة لم يسبقه إليها أرباب الفن نفسه، فحين تشاهد أسرة تفترش العشب الأصفر بين الأرصفة بجانب "كوبري"، أو عندما ترى شاباً بثوب "قميص" نوم وسط مجمع تجاري، ستعرف أن أبو سروال هو سيريالي بالفطرة!