قبل ربع قرن، كان يذهب للمدرسة سيراً على قدميه بعد أن تودعه أمه من على آخر عتبات مدخل المنزل، يحمل حقيبته على ظهره حاملاً ثقلاً من الأمل الذي أوهمه إياه الكبار من حوله، كما أوهمه كتاب المطالعة في درس الطبيب المجتهد. يمر الحي تلو الآخر، يعبر الطريق ويعبُره الخوف يميناً وشمالاً، هو يستذكر دورسه جيداً، يلتفت إلى جانبي الطريق ثم يعبر بحذر. يخطو بثقل الحقيبة في ذهابه، ويركض عائداً يُمني النفس بالرسوم المتحركة ومجلة ماجد التي لا تفارقه.
مرًّت معهُ السنوات على ذات المسار الذي لم تتغير معالم الحُفر فيه رغم تغير ملامح وجهه هو، شبَّ قليلاً وكل شيء من حوله في سكون الأصنام، نخلة معوجّة، بقايا رصيف، دُكان العم أبو حسين، و ملعب ترابي تلهو فيه شمس الصباح. لا شيء هنا يتغير، حتى دعوات أمه ووهم الأمل الذي يُسكب في أذنيه في كل إذاعة صباحية بأن "من جد وجد ومن زرع حصد"!
يعتريه القلق عند حلول الإختبارات كل عام، يمارس طقوسه في المذاكرة وتقبيل رأس والدته ثم النوم مبكراً، يستيقظ في بُكرة الصبح يقلب صفحات الكتاب، يعيد الحفظ، يرتب محفظة الأقلام ويتأكد من وجود الممحاة الجديدة رغم أنه لا يفضل استخدامها!
ولأنها مرحلة نهاية العام، يوصله والده إلى المدرسة، يقف بجانب السور في انتظار فتح الأبواب، يذهب إلى طاولته، يرتبها بالشكل الذي يريده المُعلم عادةً كي لا يتأخر لبدء الإختبار، طالب دقيق فعلاً!
يحصد أعلى الدرجات، يأتي فرحاً لوالدته التي تلمّه بكل فرح، وابتسامة معلقة على شفتيه في انتظار هدية النجاح. لم يكن كالعديد من أقرانه، لم يكن همّه دراجة هوائية أو ألعاب كومبيوتر، كان يرغب في شراء مجموعة بطاقات "سين/جيم" ليُعد مسابقات ثقافية حين يجتمع بأقرباءه خلال الإجازة!
كان يجمع شهادات التفوق في درجه الخشبي، يُعيد مطالعتها بسعادة بالغة، يرى الحياة كلها في اسمه المُدون وسط الوثيقة، سعيد جداً وغريب جداً هذا الفتى!
يتكرر العام تلو العام بهذا الروتين الوهمي نحو المستقبل، كانت رغبته الإلتحاق بأفضل جامعة فقط، هذا كان حلمه، يحلم دوماً بالأفضل ولا يتنازل إلا بتحقيق ذلك، لأنه وكما قيل له "من جد وجد ومن زرع حصد"!
أمضى سنوات خمس من العناء في الجامعة، "فرمتُه" الحياة الجامعية والمجتمع المختلف أيضاً. تصادم مع أستاذه حاصلين على شهادات عُلياً في "التطفيش"، أحدهم كان يقول للطلاب "الطالب مهما فعل لا يستحق الحصول على A، الدكتور فقط هو من يحصل على تلك الدرجة"!
أنهى تلك المرحلة بنجاحه، توج عناء سبعة عشر عاماً من الهموم الممتزجة بالفرح حيناً بإنجاز كبير، هذا ما يقال في لحظات مشابهة. ولا شيء تغير في صنمية الحياة من حوله، كل شيء ساكن كما هو، حتى أوراق تقديمه للحصول على وظيفة، ساكنة في صناديق المسؤولين!
لم يكن للطموح لديه حد، اغترب من أجل المعرفة، ليس كهذا الشاب من يكسر أمله مسؤول ناعم اليدين يخاف أن يخدشها بأوراق العاطلين، قرر مواصلة الدراسة ورحل!
رتب حاجياته، ولم ينسى ترتيب الأمل في مخيلته، رسم لنفسه مستقبلاً يشبه قوس الألوان حين يعانق السحاب، قبّل رأي والدته ويديها، ورحل فعلاً. أمضى عامين يستوفي شروط التخصص، كلما سُدت أبواب الطموح في وجهه عاندها بإصراره، يرضخ للتحدي فيُطوعهُ أملاً، ويتحدى الأمل فيُرضِخهُ إليه!
نال درجة عُليا، أمسك بوثيقة التخرج وكأنه ممسك بكواكب الفضاء، هاتف والدته أثناء الحفل، بكت فرحاً وشوقاً لهذا الذي حملته في بطنها تسعة أشهر. عاد يحدوه ذات الأمل والإصرار، تهون عليه الصعوبات التي واجهها، شتاء قارس ومتطلبات دراسية ثقيلة جداً، كلها هانت حين التقى في مشهد مكرر بوالدته، ما أسعدهُ بسعادتها، هذا ما كانت تقوله عيناه حينها!
مضى عام ونصف من البطالة، يجلس كل صباح يُرسل بريداً لهذا وذاك، يزور مكتباً، يُقابل أحدهم، يجيب على أسئلة، يحاور آخر، ولا من مجيب. ذهب ينفض ركام الوقت في مقهى قريب، أمسك بكل برود بجريدة ورقية، يقرأ خبراً عن رحلة استجمام مسؤول في جُزر المالديف، خبراً آخر عن مسؤول لازال يكرر وعوده منذ الابتدائية، مسؤول ثالث يثني ويشكر.
يدخل المقهى شاب مخملي، أوقف سيارته خلف السيارات الواقفة دون اكتراث، دفع الباب كأنه يركل حاوية قمامة، أمر النادل بتحضير كوب قهوة وكأنه خادم لديه، سمع من يجلس بجانبه يقول "هذا ولد فلان"
عاودته الذكريات فزادتهُ همّاً، سنوات طوال من العناء والأمل تُهدم في لحظة، مستقبل ولد فلان يشبه ماضيه، لا عناء فيه سوى النوم والسفر، وهذا الذي ذهب سيراً للمدرسة، تصادم مع أستاذة الجامعة، اغترب من أجل لقمة عيش كريمة انتهى به الحال في خبر بين صفحات تلك الجريدة عنوانه "انتحار شاب جامعي عاطل عن العمل"، وفي رواية أخرى انتحار وطن عاطل عن الأمل!
مرًّت معهُ السنوات على ذات المسار الذي لم تتغير معالم الحُفر فيه رغم تغير ملامح وجهه هو، شبَّ قليلاً وكل شيء من حوله في سكون الأصنام، نخلة معوجّة، بقايا رصيف، دُكان العم أبو حسين، و ملعب ترابي تلهو فيه شمس الصباح. لا شيء هنا يتغير، حتى دعوات أمه ووهم الأمل الذي يُسكب في أذنيه في كل إذاعة صباحية بأن "من جد وجد ومن زرع حصد"!
يعتريه القلق عند حلول الإختبارات كل عام، يمارس طقوسه في المذاكرة وتقبيل رأس والدته ثم النوم مبكراً، يستيقظ في بُكرة الصبح يقلب صفحات الكتاب، يعيد الحفظ، يرتب محفظة الأقلام ويتأكد من وجود الممحاة الجديدة رغم أنه لا يفضل استخدامها!
ولأنها مرحلة نهاية العام، يوصله والده إلى المدرسة، يقف بجانب السور في انتظار فتح الأبواب، يذهب إلى طاولته، يرتبها بالشكل الذي يريده المُعلم عادةً كي لا يتأخر لبدء الإختبار، طالب دقيق فعلاً!
يحصد أعلى الدرجات، يأتي فرحاً لوالدته التي تلمّه بكل فرح، وابتسامة معلقة على شفتيه في انتظار هدية النجاح. لم يكن كالعديد من أقرانه، لم يكن همّه دراجة هوائية أو ألعاب كومبيوتر، كان يرغب في شراء مجموعة بطاقات "سين/جيم" ليُعد مسابقات ثقافية حين يجتمع بأقرباءه خلال الإجازة!
كان يجمع شهادات التفوق في درجه الخشبي، يُعيد مطالعتها بسعادة بالغة، يرى الحياة كلها في اسمه المُدون وسط الوثيقة، سعيد جداً وغريب جداً هذا الفتى!
يتكرر العام تلو العام بهذا الروتين الوهمي نحو المستقبل، كانت رغبته الإلتحاق بأفضل جامعة فقط، هذا كان حلمه، يحلم دوماً بالأفضل ولا يتنازل إلا بتحقيق ذلك، لأنه وكما قيل له "من جد وجد ومن زرع حصد"!
أمضى سنوات خمس من العناء في الجامعة، "فرمتُه" الحياة الجامعية والمجتمع المختلف أيضاً. تصادم مع أستاذه حاصلين على شهادات عُلياً في "التطفيش"، أحدهم كان يقول للطلاب "الطالب مهما فعل لا يستحق الحصول على A، الدكتور فقط هو من يحصل على تلك الدرجة"!
أنهى تلك المرحلة بنجاحه، توج عناء سبعة عشر عاماً من الهموم الممتزجة بالفرح حيناً بإنجاز كبير، هذا ما يقال في لحظات مشابهة. ولا شيء تغير في صنمية الحياة من حوله، كل شيء ساكن كما هو، حتى أوراق تقديمه للحصول على وظيفة، ساكنة في صناديق المسؤولين!
لم يكن للطموح لديه حد، اغترب من أجل المعرفة، ليس كهذا الشاب من يكسر أمله مسؤول ناعم اليدين يخاف أن يخدشها بأوراق العاطلين، قرر مواصلة الدراسة ورحل!
رتب حاجياته، ولم ينسى ترتيب الأمل في مخيلته، رسم لنفسه مستقبلاً يشبه قوس الألوان حين يعانق السحاب، قبّل رأي والدته ويديها، ورحل فعلاً. أمضى عامين يستوفي شروط التخصص، كلما سُدت أبواب الطموح في وجهه عاندها بإصراره، يرضخ للتحدي فيُطوعهُ أملاً، ويتحدى الأمل فيُرضِخهُ إليه!
نال درجة عُليا، أمسك بوثيقة التخرج وكأنه ممسك بكواكب الفضاء، هاتف والدته أثناء الحفل، بكت فرحاً وشوقاً لهذا الذي حملته في بطنها تسعة أشهر. عاد يحدوه ذات الأمل والإصرار، تهون عليه الصعوبات التي واجهها، شتاء قارس ومتطلبات دراسية ثقيلة جداً، كلها هانت حين التقى في مشهد مكرر بوالدته، ما أسعدهُ بسعادتها، هذا ما كانت تقوله عيناه حينها!
مضى عام ونصف من البطالة، يجلس كل صباح يُرسل بريداً لهذا وذاك، يزور مكتباً، يُقابل أحدهم، يجيب على أسئلة، يحاور آخر، ولا من مجيب. ذهب ينفض ركام الوقت في مقهى قريب، أمسك بكل برود بجريدة ورقية، يقرأ خبراً عن رحلة استجمام مسؤول في جُزر المالديف، خبراً آخر عن مسؤول لازال يكرر وعوده منذ الابتدائية، مسؤول ثالث يثني ويشكر.
يدخل المقهى شاب مخملي، أوقف سيارته خلف السيارات الواقفة دون اكتراث، دفع الباب كأنه يركل حاوية قمامة، أمر النادل بتحضير كوب قهوة وكأنه خادم لديه، سمع من يجلس بجانبه يقول "هذا ولد فلان"
عاودته الذكريات فزادتهُ همّاً، سنوات طوال من العناء والأمل تُهدم في لحظة، مستقبل ولد فلان يشبه ماضيه، لا عناء فيه سوى النوم والسفر، وهذا الذي ذهب سيراً للمدرسة، تصادم مع أستاذة الجامعة، اغترب من أجل لقمة عيش كريمة انتهى به الحال في خبر بين صفحات تلك الجريدة عنوانه "انتحار شاب جامعي عاطل عن العمل"، وفي رواية أخرى انتحار وطن عاطل عن الأمل!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق