مرّت سنواتها الخمسة والعشرين سريعًا رغم بطئ عقارب ساعة الحائط في منزل جدها. فقدت والدها في سن السابعة، وعاشت غريبةً بين حُجرات منازل أقاربها، تارةً توبخها خالتها، مرةً ينهرها أخوها، واعتادت حياةً لا تشبه الحياة، اعتادت غرفتها الضيقة وصُراخ من حولها، اعتادت وطنًا لم تعرفهُ حتى اليوم!
بعثت لي رسالةً تشكو فيها قدرًا لا يُنصف، ومجتمعًا لا يُنصف، وسماءً تبدو حالكة السواد رغم إشراقة الشمس كل يوم، فالأيام لديها تشبهُ حدود المقابر، تشبهُ اللحّد الذي وضعوها بداخله من قبل مهدها، من قبل قُبلات والدها الذي تركها بين طوفان العيب والحرام، فقط لأنها أنثى!
وصلتني رسالتها كغيرها من المكسورات خلف أسوار البيوت، خلف قضبان السجون الاسمنتية!
تقول:
أبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا، هل تفهم ماذا تعني هذه السنوات أيها الغريب؟ هل تفهم كيف كنت أعيش ولازالت مسجونة بأعراف لم أخترها، مسجونة بجريمة لم أرتكبها، مسجونةً بذنبٍ لم أقترفه أبدًا!
وُلدت لأسرةٍ عادية جدًا، مع أختي وثلاثة من إخوتي، ولا تهم أعمارهم فجميعهم يكبرونني في الحياة والحقوق وكل شيء لأنهم ذكور فقط، لأنهم خُلِقوا ذكوراً هكذا وشاء القدر تلك اللحظة أن أكون أنثى!
وتضيف: لا أريد الكلام عمّا جرى وكيف مرت السنوات، أنا أتحدث عن اليوم، عن حياتي المؤجلة التي أخلفت مواعيدها منذ زمن، أتحدث عن اليوم، هل تفهمني؟
أرجوك افهمني، أنا لست سخيفة، لا أريد منك شيئًا، و لا أريد شيئًا عظيمًا، أريد أحدًا يفهمني لو مرةً واحدة فقط!
لم أغادر حدود فناء المنزل إلا للجامعة التي كانت بمثابة سجن آخر، بهواء آخر، رُعبٌ ينتابني كل يوم للذهاب والعودة، الكُل يراقبني، الكل ينظر إليّ وكأنه يتحين مني زلةً واحدة، لماذا تأخرتي عدة دقائق؟ لماذا لم تذهبي اليوم للجامعة؟ لماذا ولماذا؟ وأنا مطلوب مني دليل على كل شيء، كل شيء يظنونه هو حكم قضائي، وأنا على أية حال متهمة!
أسكن منزل أُسرتي في الرياض، أنهيت دراستي بعد سنوات أربع، بقيت أبحث عن عمل لأعيش منه، لأشتري لنفسي حاجياتي الخاصة، وبعد عام ومحاولات مضنية وجدت عملًا براتب متدني، ولكني أود أثبات نفسي، أبسط شيء من حق الانسان أن يُحاوله هو إثبات نفسه، وقفوا في وجهي، في اليوم التالي جاءت أمي تخبرني عن وجود "عريس"، هذا هو المنقذ، وكأنه من الواجب أن تكون حياتي عورة وناقصة لا تستقيم إلا بوجود ذكر!
جاءت أُسرة "العريس"، ورفضت النزول من حجرتي، رفضت أن أمشي أمام أعين نسوة يتفحصن جسدي ليصفنه لابنهم أو أخيهم، أنا لست رخيصة، أنا لستُ رخيصة. رددت هذا أمام خالتي وأمي، ودون جدوى أرغموني على النزول!
هل أنت معي؟ هل تفهم ما قلت في الأعلى؟ هل تشعر بالفعل؟ هل تعي ما أقول!
سأُكمل ولا يمهم من يفهم ومن لا يفهم، نزلتُ على عتبات الدَرج، وحولي أمي، خالتي، بنات خالتي، وأيضاً أطفالٌ صغار ينظرون إليّ بدهشة وخجل، لا يعرفون هم أيضاً مصير حياتهم وسط هذا المجتمع!
نزلتُ كضحية يجرّها الجزارون، كبضاعة كاسدة يريدون الخلاص منها، كوعاء صدِئ ليس له مكان في خزانات المنزل!
هذا هو شعوري، هذه هي الحقيقة، هذا ما فعلوه بي وأنا ابنتهم، أنا من لحمهم ودمهم، وأنا من يسمونني شرفهم!
كل هذا في سبيل أن يقفوا أمام حلم عملي، أمام طموح بسيط تُحققه أي فتاه أخرى بالعمل وحفظ كرامتها من السؤال والتفضل، كيف يحبونني وكل يريدونني أن أبقى عالة على أحد، يريدون إلقائي على رجل يشتريني منهم ليُريحوا ضميرهم الميت!
كل هذا لأنني وجدت عملًا، من حُسن الحظ أن الزيجة لم تتم، لم أُعجب أخوات "العريس" الجبان ولا أمه، هذا أفضل ما حدث، حمدتُ ربي كثيرًا لهذا الأمر!
أصررت العمل، ونجحت أخيرًا، وبدأت معاناة المواصلات، ألم أخبرك أنه يجب أن نكون عالة، كل شيء في هذا المجتمع مُرتب لكي نكون عالات وناقصات، حتى العمالة تستغل ظروفنا، قُرابة نصف راتبي يذهب للسائق.
أمضيتُ عامًا بعناء المواصلات، وكلمات خالتي، وعمّتي الجارحة بين الحين والآخر، اقترب العيد، ولا تعرف أيها الغريب أنني لا أعرف ما معنى العيد، كانت آخر ابتساماتي بحضن أبي في العيد قبل ثماني عشرة عامًا مضت!
منذ مولدي لم أسافر لمكان، لم أخرج من هذه الحدود، بل ليس لدي جواز سفر! أنا ابنة خمسة وعشرين عامًا، أنا مواطنة في وطن يطلب مني التذلل عند أحد ذكور العائلة كي يستخرج لي جواز سفر، ثم التذلل مرةً أخرى للسماح لي بالسفر، بدأت أشك أنني مواطنة، أشك أنني موجودة!
زميلاتي في العمل يتحدثن عن سفراتهن، عن خروجهن، عن متعة السفر، يتحدثن عمّا يمتلكن من حاجيات لم أرها سوى عبر زجاج الدكاكين وإعلانات التلفاز، أنا لستُ فقيرة، لستُ مُعدمة، لكني بلا حياة، بلا اختيار، ظروف زميلاتي ساعدتهن على الأقل لمعرفة شعور السعادة البسيط، أما أنا فيتيمة من كل شيء، حتى من أبسط مشاعر الفرح!
هذا أيها جزء من السجن، سطرُ واحد فقط من مآسي تتكرر كل لحظة، ولك أن تتصوربقية تفاصيل ما نعيش، لك أن تكون انسانًا وتشعر بشيءٍ مما نُعانيه!
أنا أخبرتك، لا أريد منك شيئًا، فقط هل فهمتني؟ هل تشعر بي وبآلاف المسجونات بالأقدار والظروف الملعونة؟ إذا فهمت ، فشكرًا لك، وإن لم تفهم، فنحن اعتدنا خيبات الأمل!