في الغربة، في الغرب، حيث المكان يغني بالناس ويعزف بهم لحن الانسانية. البساطة المُعلقة بين جنبات الطريق، الانتظام عليه، والابتسامات العفوية على مُحيا الغرباء. هناك رميتُ ذاكرتي علّها تعود بي يومًا نائيًا عن بُكر خطواتي على هذا المكان المُوحش!
تسير وملامحك الشرقية لا تثير انتباه المارّة، تذهبُ لإجراء معاملة رسمية، تُستقبل بكل رحابة وأنت أهل دار. تذهب للمعبد، تذهب للسوق تذهب لأي مكان، أنت وهم والكلُ معك انسان. تقضي سنينًا لا تُسأل عن تدينك وقبيلتك أو من جدك السابع عشر، لا أحد يقتحم روحك بالأسئلة والارتياب!
ذات مرةٍ كنت واقفًا في طابور المقهى الجامعي، خلفي مدير الجامعة، أقدم جامعة في أمريكا الشمالية، مدير الجامعة بلحمِه وشحمِه وكُنزّته المتواضعة وربطة عنق زرقاء، بيديه بضع قطع عملة معدنية، يصطف مع الطلبة هو كذلك للحصول على قهوته كلّ صباح.
في الغربة، في الغرب، أُسرةٌ تُحضر معها مقاعد النُزهة وبعض الوجبات الخفيفة لتشاهد مباراة لابنها الصغير وتُشجعه ضمن نشاط مدرسي في لعبة "البيسبول". في الجهة المقابلة فتاةٌ تخرج لممارسة الجري كلّ صباح، تقف عند إشارة المرور التي تُصدر صوتًا يُرشد العُمي للعبور، الكل يعبر بانتظام، لا عورات في الطريق، لا غباء في الطريق.
في الغربة، في الغرب، مُسنّة بعُكازها ذي الأربعة أرجل واقفةً عند نقطة انتظار الحافلة، تصل الحافلة ويقوم السائق بخفض مستوى عتبة الصعود لتتساوى بالرصيف كي تصعد المرأة العجوز براحة ودون خطر. فجأة تعبر سيارة نقل الموتى، كل المركبات على امتداد الطريق الذاهب والقادم توقفت احترامًا لعبور المُتوفى.
في الغربة، في الغرب، كل شيء تحطّ عليه عينيك ترى فيه لونًا من حياة، موسيقى الأرصفة، أدب السير، طلاء المنازل وتصاميمها، كل شيء تنبعث منه رائحة الانسان والحرية. فما تراه في المُدن هو حقيقة سُكانها، هو ما يؤمنون به حقًا، وليس ثرثرتهم وشعاراتهم!
هناك حيث الأماكن البعيدة عن قصبة الإكراه تنمو الانسانية والبساطة في كل الجهات، مجتمعات تفيض بالحب وتقدير قيمة الانسان، بعيداً عن جدال التدين، بعيدًا عن خرافات التاريخ وتلوثه.
في الغربةِ رغم قسوة الوقت حين تُشعرك بالانسان، ستهبك الحياة، تلقنك درسًا أن الأوطان محض ذاكرةٍ جغرافية، ذاكرة طفولة فقط، قد انتهت!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق