من أشد أنماط البؤس أن يتحول الانسان إلى كائن بلا شعور، يسيرُ كالضرير بلا قُدرةٍ لاستشعار الواقع من حوله عطفًا على تآمّل هذا الكون المُبهر في كل تفاصيله. هكذا تُصاغ المجتمعات المقهورة على مرّ العصور، وهكذا يُراد لها أن تكون مُعتادًة على ما تُحشى به من أوامرٍ ونواهٍ، منشغلًة عن صميم وجودها بكل توافهِ الدُنيا!
حين تُراجع تاريخ الوجود البشري تجد في صورٍ جليّة هائلة علاقًة عكسيًة بين الخرافة وتعابير الانسان، وتجد تزاوجًا منسجمًا بين مُنحنى المعرفة والحرية الفكرية. أن تكون تلك الشواهد بهذا الحجم الضخم، وأن تتوفر في العالم هذه الموارد والسُبل المعرفية والمعلوماتية ويبقى الفرد رغم ثروة أرضه عاجزًا عن التحليل والتأمل، عاجزًا عن إدراك معنى وجوده، عاجزًا عن تحقيق أبسط ألوان الحضارة الانسانية الموازية لهذا العالم، فأنت كانسان مُحاول للحياة ستقف أمام كومة بؤس مثيرة للحُزن والشفقة معًا.
بات الواقع في هذه البقاع المتجاورة والمترامية الأطراف يُشكل بؤرًا من الظلام ولونًا شاحبًا باهتًا حدّ العدم، بينما يزخر العالم في ذات الوقت بمشاهدٍ مُبهرة من تعابير الانسان، تراهُ يمضي عقودًا في استكشاف نوعٍ فريدٍ من الطيور ليقدمُه في مادة وثائقية مرئية، تراه يبسط الوقت موسيقى على رصيف يعبره المارّة وكأنهم يمرون من خلال بستان حُب. بات الواقع يستدعي استنكار وضع هذا الانسان المُعبر عن وجوده بالمعرفة والحُب تحت نفس عنوان الانسانية مع ذلك الكائن عديم الشعور!
والأشد قسوة ليس الفشل في تحقيق تعابير الانسان، بل تحويل الوجود إلى مستنقعٍ من البشاعة باسم الفضيلة، ترى مجتمعات تدّعي الفضل والخير وهي تروي الأرض بالعِراك والدماء في دعوة وهمية لامتلاك الحق. هي ليست مجتمعات بائسة في انسانيتها فحسب، بل أفرزت ترسانة كراهية قبيحة تنفر منها حتى الدناءة نفسها!
ورغم كل تلك الشواهد يبقى الفرد في هذا البلدان الميتة انسانيًا، عمومًا وفي أحسنِ حالٍ في عجزٍ عن مواكبة معنى الحياة يفضل الإنكفاء إلى الرضوخ بحجج القناعة والصبر وكأن البؤس قضاء وقدر. والأسوأ أن يُصنع من هذا الانسان دُميةً تدافعُ عن واقع بؤسها، وآلةً غبيةً جدًا تحمل تعاريفًا مشوهةً للحرية والكرامة الانسانية فتبدأ برؤية الواقعيين والمتحدثين بروح الحرية مجرد أعداء ومضخات من التشاؤم والضلال والسوداوية!
إن أشد البؤس في هذا الواقع ليس طوفان الظلم والهلاك، بل أن لا تراه موجودًا، أن يضمحل شعورك بالانسان بداخلك فيبدو البؤس روايًة مقدسًة تُصلي بها!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق