لا شك أن الحياة، أو حق الفرد في الحياة، لا يحتمل سوء الفهم، هو حقه بغض النظر عن مفاهيم أي جهةٍ كانت، حياته ليست حقلَ تجاربٍ لأفكار الآخرين.
حين تكون لديك قناعات وفهم مُستنبط من ثقافةٍ أو تاريخٍ ما، بالطبع ستكون مُعتقدًا أنك على صواب، وهذا لا خلاف حوله، لك حق ممارسة ذلك والتعبير عنه كحق أصيل مكفول للانسام. لكن الخلاف أن تظن بذلك أنهُ لك الحق في جعلِ فهمك وقناعاتك قوانينًا لغيرك، من باب اعتقادك الداخلي أو المُتأثر بالمُحيط بأن فهمك وقناعاتك هي الحقيقة.
كل فرد يتحمل مسؤولية قناعاته وفِهمه، وليست مسؤوليته تحديد فهم وقناعات الآخرين فيما يتعلق بالمساحة الخاصة للفرد، كاعتقاد واقتناع شخصي أو وجداني. وهذا بالطبع لا يعني أن له الحق في الاقتناع بالتعدي على الآخرين وتطبيق اقتناعه كنوع من الحقوق، لأن التعدي ليس حقًا لأحد في الأصل.
القانون هو منظومة ضوابط وتعليمات تضمن لك اختيار فهمك وقناعاتك، كما يضمن لغيرك ذات الأمر. لا يمكنك تحويل فهمك وقناعاتك، الايمانية وغيرها، إلى قوانين مُلزمة للآخرين، لماذا؟ ببساطة لأن ذلك فهمك أنت، قناعاتك أنت، وإلّا فتقبّل أن يفرض الآخر فهمه وقناعاته كقوانين إجبارية عليك!
البعض، وفي حقبةٍ زمنيةٍ قريبة، كانوا يُدافعون عن فِكرٍ ما ويرون أنهُ الصواب ويجب تطبيقه كقانون إلزامي أو كأعراف ثابتة أو حتى كعادات وتقاليد متوارثة، يرون أن من حقهم تطبيق فهمهم حتى على الآخر الذي لا يؤمن بذلك الفهم ولا بتلك القناعات، فتعرض هذا الآخر للإكراه والمُلاحقة والتلقين، واضطر لمُسايرة تسلط ذلك الفكر لسنين طويلة من عُمره.
بعد عدة عقود، بات أولئك يرون فهمًا آخرًا، فهمًا مُقاربًا لما كانوا هم أنفسهم يقفون ضده ويمنعون الآخرين منه، بل باتوا يرون فهمهم الحالي -الذي كانوا ضده- قانونًا إلزاميًا، ويُبررون بكل برود بحجة أنهم كانوا "شاب متحمسين ومندفعين" غير آبهين لمن تضرروا وسُحقت حياتهم إثر مبدأ "تحويل الفهم الخاص إلى قوانين وأعراف". ليس ذلك فحسب، بل ويعتبرون المختلف معهم في هذا الجانب ضالًا وفاسقًا، كما كانوا يفعلون في السابق تمامًا.
ركّز جيدًا، أصبحوا يعتقدون أن فهمهم الحالي, الذي كانوا ضده ويصفون من يُنادي به بأبشع التُهم، أصبحوا يرونه هو الحقيقة، وأن المُخالف لهذه "الحقيقة" ضال استنادًا على ذات المبدأ السابق "تحويل الفهم الخاص إلى قوانين وأعراف"، وأيضاً غير مُبالين لحياة الآخرين المختلفين معهم في الفهم والاقتناع!
الذي يفعله هذا السلوك الإقصائي، أيّاً كان توجهه ومصدره، مهما كان اسمه وانتماؤه ومذهبه، هو تعطيل الحياة وتجميدها في قالب آحادي، لأنه سلوك يُحول من فهمه إلى قانون وأعراف وثقافة إلزامية، في حين أن القانون يجب أن يكون المادة التي تحفظ لجميع المُختلفين حق الفهم والاقتناع!
- السؤال، من يُعوض المختلفين الذين كانوا يُنادون بالفكر الحالي؟ ومن سيعوض المختلفين الذي ينادون بفكرٍ آخر يُعتبر اليوم ضلالًا؟
الحرية كان يمكنها الإجابة على هذا السؤال، لأنها كانت ستضمن أن يكون القانون هو المُحدد لحفظ حق كافة الأطراف لاختيار قناعاتهم وعدم تطبيقها على غيرهم.