بعد عناء يوم عمل طويل ذهبت وحيدًا كعادتي لأحد المطاعم وسط عاصمة الرمل، الرياض. تناولت وجبتي وخرجت سالكًا شارع "التحلية" الشهير بالمطاعم والمقاهي، وسط الزحام توقفت عند أحد إشارات المرور، بجانبي سيارة قديمة يبدو بها أسرة مكوّنة من والدين وطفل وطفلة. كانت الصغيرة في السابعة من عمرها ربما، تُسند جبينها على زجاج النافذة الجانبية المفتوحة لنصفها رُغم حرارة الأجواء!
كانت الطفلة تُحدق بعينيها الواسعتين في المباني والسيارات المُحيطة، تتأمل العابرين والجياع الداخلين من بوابات المطاعم الفاخرة، ترقبُ المتبضعين الواقفين على مداخل المجمعات التجارية وبأيديهم أكياس تحمل أرقى الماركات العالمية، أحدهم هناك يتناول كوب قهوة وقطعة كعك مُحلى ويسير مرتديًا حذاءً تفوق قيمته حُلمًا لهذه الطفلة لشراء "لُعبة"!
تعود بعينيها إلى السيارة الفارهة الأخرى بجانبها، لمحتني أنظر إليها، لم تتغير ملامح الأسى على وجهها الشاحب، عقدت حاجبيها وكأنها تتعجب من شيء، أطرقت للأسفل، اعتدلت في جلستها، واختفت عن ناظري.
لازال ضوء الإشارة أحمرًا، الكل متوقف في هذا المسار، وأنا هربت بالتأمل في مجريات حياة تلك الصغيرة، كيف تنام؟ كيف تذهب للمدرسة؟ هل أقاموا لها حفل عيد ميلاد مرًة؟ هل أهداها أحد هديًة بمناسبة نجاحها؟ أين تسكن؟ ما شكل حجرتها وسريرها؟ ماذا كانت تفعل في أيام العُطلة؟ ذهبت بعيدًا لكل تفاصيل عيشها، كنت قريبًا من خزانة ملابسها الخشبية الصغيرة التي تُخبئ فيها دفاترها المدرسية وكُراسات الرسم. كُنت هناك خفيًا عن الأعين، حين تحلّ الساعة التاسعة تأتي حجرتها، المُشتركة مع أخيها الأصغر، في هدوء رتيب، تجرُّ معها عربةً مُترسًة من الهمّ الساكن بين جدران مسكنهم المتهالك، تستلقي على فراشها البسيط المُجاوّر لجهاز التكييف المُهترئ دون غطاء، تسحب بيديها الصغيرتين لِحاف المنام وتختفي مرًة أخرى عن ناظريّ!
يعمّ السكون أرجاء المسكن إلا من طنين الصمت وإيقاع الحُزن، أسرةُ تتآكل وسط مدينة الثراء حيث يعلو صوت الزهاد والكرماء كل يوم من مكبرات الصوت وأجهزة التلفاز، يتحدثون عن فضائلهم بتلك الروحانية المُزيفة وهُم يقنطنون قصورًا بلا نهاية تُحيطهم أسوار الترف من كل الجهات. يظهرون بأيديهم الناعمة التي لم تُصافح "الكدح" يومًا ما
طفلةٌ تُكابد رتم الفقر والضجر كي يتنعم "الأتقياء" بأجور المواعظ، وكي يرفل تجار الجشع في وشاح الترف، تُنزع منها الحياة ولا حول لها ولا قوة سوى الاصطبار مرغمةً على كل شيء، كأن القدر الذي رماها هنا ذنبها الذي اقترفته بلا إرادة!
كانت ثوانٍ معدودة وكأنها عُمر ممتد من الوجع، لا أحد سواي أرغمني للنظر والمغادرة لحجرتها، صُدفة اللقاء هذي عند الإشارة كانت قدرًا قد تمرّ على ملايين البشر ولا شيء فيهم يتحرك، كُتل صمّاء لا يوقظ سبات قلوبها قسوة المكان وتناقضاته، قبور تسير في هيئة أجساد تتناثر من خيوط الأكفان، أناسٌ على قيد الموت يعيشون، يتناكحون، ويُخرجون للدنيا فضلات أعمارهم وقتًا بليدًا بلا شعور. ونحن القلّة لماذا نشعر؟
أن تشعر بالأسى والحُزن من أجل الآخرين، من أجلك، من أجل الانسان هي لذة الحياة رُغم الوجع النابع منها. كاذبٌ من يقول أن الغير مهتمين بتفاصيل الأشياء، الغير متعمقين في المواقف يمتلكون سعادًة والحياة، هُم لم يعرفوا الانسان بعد حتى يعرفوا معنى الحياة!
ثق، أن تُدرك فتشعر رغم الآلام، خيرٌ من سعادة تُنجبها إليك الخرافة والأوهام!