الوجود بالحجم الضخم الهائل الذي كشفه الانسان حتى الآن فقط يحمل عناويًا عريضة لتساؤلات عميقة جدًا. مابين بساطة الفكرة وتعقيداتها يمكن فرق وحيد يميز البشر، هو استشعار وجوده في هذا الوجود، في هذا الوقت بالتحديد، وضمن هذا الرتم المعرفي بالتحديد!
لا يُعقل حتى لدى أبسط مفكر أن تكون هذه صُدف متتالية نقلت الانسان الحجري من ظروفه البدائية إلى الانسان المعرفي بظروفه المتطورة هذه في هذه اللحظة. المُتأمّل الحصيف لا شك أنه يستشعر بنوع من الحيرة غايات كامنة لم تفصح عن نفسها، وسواءً آمن بهذا أم لا، فإنه وعبر هذا الشعور يجد نفسه مُطالبًا بشكل تلقائي للتعبير عن قيمة وجوده في محاولة لنزع غشاوة الحيرة والسؤال. الانسان الأكثر انسانيةً هو من يُمرن لياقته واحساسه بوجوده مع والوجود من حوله، والانسان الأقل هو من تتشابه طموحاته وحساسيته نحو الوجود مع رغبات بقية الكائنات الحية من طعام وجنس، هو من يبلغ به الكسل للتبلد والاعتياد على رتم معيشي نمطي بفوضاه وعشوائيته!
خذ على سبيل المثال صناعة الأفلام السينمائية وما تتضمنه من جهد تقني وفكري ورياضي وأدبي وتمثيلي وغير ذلك من مجموعات تعابير الانسان، قد تبدو للوهلة الأولى مجرد خطوات مادية وحسية للترفيه، لكن في حقيقة الأمر هي لا تختلف عن صناعة لوحة فنية تحمل بين تفاصيلها مشاعرًا عميقة من روح الانسان وشعوره بقيمة وجوده. الرواية وما يتخللها من تصورات وخيالات الكاتب وأحاسيسه وأدبياته ومفرداته وحبكته الدرامية هي في حدّ ذاتها إنجاز يحكي عظمة الوجود البشري من ناحية تعبيره عن الانسان بداخله. ثم تأتي الأدوات والمعدات التي ابتكرها الانسان بذات الحسّ لتمتزج مع الرواية في صناعة فلم يستغرق أشهرًا وربما سنوات لانتاج ساعتين من الزمن تختزل في نهاية المطاف هذا الشعور وتلك القدرة الانسانية للتعبير!
هذا الاستشعار وما يترتب عليه نابع في بادئ الأمر عن استشعار قيمة الحرية، الحرية الفكرية التي تدفع الانسان لابهار الانسان، التي تخلق حسًّا تنافسيًا نحو المعرفة في شتى مجالات الوجود. لذلك ترى المجتمعات المستقلة فكريًا، الناشئة في بيئة الحرية، لها قدرة مهولة لاستشعار قيمة وجودها وبالتالي المزيد من التعبير الانساني عبر الابداع والابتكار، كل ذلك في محاولة خفية، تدور في باطن النفس السوية، للتنقيب عن غايات الوجود والامتننان له!
كلما ارتفع منسوب الحرية، ازدادت قدرة المجتمع لاستشعار تلك القيم النبيلة المغروسة فيه، فكل التعابير الحديثة ليس يتيمة وليست حدثًا طارئًا في الانسان، بل هي كامنة في عُمقه واستطاع الكشف عنها حينما كانت له الإرادة والحرية. فقام هذا الانسان بتوفير كل ما من شأنه إبراز طاقاته وتعابيره بإنشاء نظام التعليم والبحث ومراكز الابداع والفنون والأدب والصناعة وكل ما كشفت عنه الحرية حتى كوّن منظومة معرفية وأخلاقية تُلائم غايات وجوده!
في المقابل كلما انحفض منسوب الحرية، اتسعت رقعة الانحطاط وتشكلت طبقات من التخلف على تعابير الانسان بدعاوى القوى المتسلطة، فغابت تعابير الانسان واضمحل وجوده وبات كائنًا مُستهلِكًا لذرات الآوكسجين بلا جدوى ولا نِتاج، فلا يمكنه الكشف عن غايات وجوده ولا يمكنه تحقيق أي قيمة نبيلة أصلًا!
إن صناعة الانسان على هذا النمط تبدأ من ذاته، من استشعاره لقيمة الحرية وقيمة الوجود. فكل فِكر يسلب تلك القيم الأصيلة هو في صُلبه يدعو لإخفاء الانسان، يدعو لدحر الوجود وتغطيته بالجهل، فهو فكر مضاد للوجود بأكمله وليس حياة الانسان فقط!
من يرغب في صناعة نفسه، عليه بالحرية أولًا وأخيرًا!